لأول مرة، منذ صدور فتوى الخميني بإعدام سلمان رشدي، يتصل بي في يوم واحد أكثر من عشرين صحفيا لطلب تدخل حول ما يحدث في سجن صيدنايا. فخطر لذهني أنه رغم تقديمي لمعلومات عن هذا السجن مرات عديدة، لم أجد صحفيا واحدا ينشر ما نقوله. خاصة في سنوات المحاكمات الشهيرة التي حكم بها على سجناء بعد 15 عاما من اعتقالهم بين 1992 و1995، حين كانت مشاركة الجيش السوري في حفر الباطن قد أعادت للسلطة رونقا غربيا. أكثر من ذلك، لم تتحرك المفوضية السامية لحقوق الإنسان حين طالبتها ثلاث مرات بالتدخل من أجل 36 حالة خطيرة حملت إلى سجن صيدنايا بالبطانيات في مطلع هذا القرن. وهي حالات حكم عليها في محاكم ميدانية أو لم تسمع بحكم قضائي قط، أوقفت أحيانا قبل عشرين سنة بتهمة الانتماء لحركة الإخوان المسلمين. منذ خمس سنوات، اعتبرت اللجنة العربية لحقوق الإنسان سجن صيدنايا قنبلة مولوتوف حية. كون السلطات الأمنية اتخذت قرارها بإحالة كل المغضوب عليهم، ممن كانت ترسل بهم إلى تدمر أو المزة، إلى سجن صيدنايا. لقد تحول هذا السجن في السنوات الأخيرة إلى المثل الأسوأ لما يمكن أن يكون عليه سجن، زاد على ذلك حالة نسيان من الدولة والمجتمع. منظمات حقوق الإنسان الدولية، بل والعديد من العربية، تركز على معتقلي سجن عدرا، باعتبار الظلم الواقع عليهم نتيجة نضالهم من أجل إحياء مجتمع مدني في حالة استعصاء أو الدفاع عن حقوق الإنسان أو المطالبة بالانتقال السلمي للديمقراطية. في حين تحولت مهمة سجن صيدنايا إلى استيعاب المتطوعين العرب للعراق، والتنظيمات الجهادية والسلفية، ومعتقلي الأحزاب الكردية على اختلافها، والتجمعات الإسلامية الصغيرة غير المعروفة، والمعتقلين من مشايخ أو شخصيات أعلنت مواقف صريحة مع الجهاد والكفاح المسلح، ومعتقلي الإخوان المسلمين قدماء وعائدين جدد، ومعتقلي حزب التحرير الإسلامي، وحركة التوحيد الطرابلسية، والهاربين من جحيم نهر البارد، ومعتقلين لبنانيين من عدة أطراف غير موالية لسورية، وفلسطينيين بعلاقة جيدة مع المعارضة، وسعوديين يرفض معظمهم العودة لبلده (يوجد معتقلين من ثماني جنسيات عربية) إلخ
سجن صيدنايا العسكري من أكبر وأحدث السجون السورية، أنهت الحكومة بناءه في عام 1987. وهو يقع قرب دير صيدنايا التاريخي الواقع شمالي العاصمة السورية دمشق. ويتكون المبنى من ثلاثة طوابق وثلاثة أجنحة تلتقي في المركز على شكل ماركة المرسيدس. يتكون كل جناح في كل طابق من عشرين مهجعا جماعياً بقياس 8 أمتار طولا وستة أمتار عرضا. يحوي الطابق الأول مائة زنزانة. ويوجد في قسمه العسكري اليوم قرابة 1500 سجين حق عام حسب تقديرات السجناء.
منذ 18 عاما وبدء الإفراجات عن معتقلي 78-1982، ونحن نوثق عدد المعتقلين في سجن صيدنايا في كل تقرير سنوي أصدرناه بين 1990 و1997 عن لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنذ 1998 في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، أثناء وبعد إعداد كتاب “الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية”. وكثيرا ما كنا نسمع انتقادات عن الدقة، رغم أن اللجنة العربية نشرت بمساعدة نزار نيوف (المعتقل حينها في صيدنايا) أدق قائمة بأسماء المعتقلين اللبنانيين فيه. نجم عن نشرها في صحيفة “النهار” تراجع رئيس الجمهورية اللبنانية عن تصريح له بعدم وجود معتقلين لبنانيين في صيدنايا.
قد يكون من أردأ أجهزة الأمن في العالم الأمن السوري. فهو يتكتم على كل شيء ويتعامل مع ملف السجناء والمفقودين والسجون كملكية خاصة. ولا أبالغ إن قلت أن مسئولين كبار في هذا البلد لا يعرفون عدد معتقلي صيدنايا، وليس بوسعهم معرفته. غياب الشفافية وقواعد الحد الأدنى للتواصل مع المؤسسة العقابية وضحاياها في سورية انعكس ضرره على الضحايا، ولم يستفد منه الجلاد إلا بالمعنى السادي المازوشي للكلمة. فعلى سبيل المثال، حدثت إفراجات عديدة ونجحنا كمنظمات حقوقية في إطلاق سراح قسم من المرضى في سجن صيدنايا، إلا أن الأمن كان يرفض إعطاء أي رقم أو اسم حتى عند الإفراج عن الأشخاص. كنا نحصل على أسماء المفرج عنهم من أحزابهم أو عائلاتهم أو الشخص نفسه، أو حتى لا نعلم بالأمر إلا بالصدفة بعد أشهر.
نقرأ في بيانات المنظمات الحقوقية عددا من الأشخاص المعتقلين يقل عن المائتين في العام الماضي في سورية، ويمكن القول أن أوضاع السجون السورية لا تختلف عنها في مصر والعراق وفلسطين والسعودية وتونس واليمن. ومع هذا، السمعة الأسوأ ليست لسجن الحاير في السعودية أو السجون المصرية أو العراقية وإنما للسجون السورية.
غياب الأمانة والشفافية عند أجهزة الأمن جعل الناس تقبل أي خبر. بل سرت العدوى لغياب الأمانة عند المحكوم. المراقب العام لحركة الإخوان المسلمين يضرب عدد المعتقلين في صيدنايا بأربعة أضعاف. اللجنة الحقوقية القريبة من حركته تزاود عليه، وتعتبر من لا يوافق على روايتها من “أذناب النظام”. حركة أخرى إسلامية تتحدث عن قتلى في نيسان/ أبريل الماضي في السجن، عند محاولة أحد السجناء حرق مسئول مر بمهجعه. عندما نتصفح تقارير منظمات حقوق الإنسان السورية والعربية والدولية في 2008 نجد أرقاما أخرى. وهكذا نصبح كحركة حقوق إنسان أمام أحد خيارين: إما الكذب لأسباب سياسية أو الصدق، وبالتالي العمالة للسلطات السورية.
في تقريرها الرابع لعام 2006-2007، تقول جمعية حقوق الإنسان في سورية : “للأسف لا يوجد إحصاء لعدد المعتقلين. فالسلطات المعنية لا مصلحة لها في الكشف عما لديها. والخوف المسيطر يحول بين الناس والإعلان. ويلعب ضعف الجمعيات العاملة في مجال حقوق الإنسان دوره أيضا. التقديرات الأولية عن عدد المعتقلين تتراوح بين الألف والألف وخمسمئة، إضافة لبضعة مئات من المعتقلين القدماء، الموجود اغلبهم في سجن صيدنايا العسكري”. وتعطي اللجنة العربية لحقوق الإنسان تقديرا من مجموع ما تتلقى من مراكز الاعتقال والاستجواب المختلفة، بوجود قرابة 2600 معتقل. المنظمة العربية لحقوق الإنسان في سورية قدمت رقم 1500 معتقل في آخر تقرير لها. حتى اللجنة السورية لحقوق الإنسان، المنبثقة عن حركة الإخوان المسلمين، كانت بياناتها قبل تشكل جبهة الخلاص أكثر دقة من اليوم.
عندما بدأت أخبار مأساة صيدنايا تتوارد، كان ثمة من يتحدث وكأنه يعيش في سجن رسمه كما يحب: السجناء صعدوا للسطح (لا أراكم الله سطح سجن صيدنايا وهو بلا أدراج ولا سلالم داخلية). عصيان في السجن يتبعه أخذ رهائن منهم المدير وضباط وضباط صف (ما هذه الحضارية المفاجئة لأجهزة الأمن التي تحاور آخذي الرهائن وتحافظ على الحياة البشرية ولا تتدخل لأكثر من 50 ساعة؟). تلفونات خلوية جماعية تنقل الوقائع مباشرة إلى لندن وبيروت (تم تدارك الموضوع بالحديث عن أخذ التلفونات من الرهائن!). القضية حسب معارض آخر كانت مبيتة ومعدة من السلطة (ما هذه السلطة الذكية التي تستبق أول زيارة لرئيسها لأوربة منذ اغتيال الحريري لتنظم تمردا في أسوأ سجونها؟). وأخيرا وليس آخرا، توضيح أن اكتشاف الأمن وجود القرآن الكريم مع بعض المعتقلين أثار عدوانيتهم (منذ متى تمنع السلطات السورية السجناء من حيازة القرآن والإنجيل والعهد القديم؟ وكيف سكتت منظمات حقوق الإنسان عن هذه الجريمة حتى اليوم؟).
ثم تستمر الحبكة في إثارة خطيرة للمشاعر الدينية: “تدنيس القرآن سبب العصيان”.. في لحظة صعبة لأطراف راهنت على تغيير سريع في البلاد لم يحدث، صار من الضروري إنقاذ ماء الوجه بأي سبيل. بدأت القصة بإثارة النعرات الطائفية من أكثر من طرف معارض، مهاجمة حزب الله في كل مناسبة، الانتصار لسّنة لبنان المظلومين، انتشار التشيع في سورية، مهاجمة المحور الإيراني السوري، العودة للضرب على الطابع الطائفي للسلطة، وأخيرا الحديث في تدنيس القرآن.
كم حذرنا كحركة حقوقية من خطر اللعب على وتري العنف والطائفية في سورية، وأن السير في هذا الطريق سيشعل حريقا لن يسيطر عليه أحد. كمثل بسيط مقطع من مقالة الصحفي الجاد أحمد موفق زيدان، في رد على جبهة العمل الإسلامي، التي قال أمينها العام بأن ليس بحيازتهم معلومات كافية عما حصل: “هل البعثي النصيري أقرب إلى إخوان الأردن من الإسلامي أو من المظلوم في سجون البعث السوري الذي دُنس القرآن أمام أعينه، هل تدنيس القرآن على يد أحفاد سليمان المرشد الذي ادعى الألوهية وقتل بسببها، وحافظ الأسد جائز وتدنيس القرآن في غوانتانامو وبغرام حرام، العياذ بالله، ما لكم كيف تحكمون؟؟؟”.
لا أدري كيف تأكد أحمد زيدان من طائفة حراس السجن، خاصة وأن العديد من السجناء يروون في شهادتهم من السجن بأن من الحراس من يصلي ويصوم؟
تسع منظمات سورية لحقوق الإنسان في دمشق كانت أكثر حذرا، ولكن من يأخذ بتعقلها أو يستمع لها؟ لأول مرة يشعر المرء بعودة الخطاب الطائفي الذي كدنا ننساه مع اقتراب الذكرى الثلاثين لمجزرة كلية المدفعية بحلب، والذي كان أحد أسباب مجازر ما زلنا ندفع ثمنها حتى بعد غياب ضحاياها وجلاديها. هل توهمنا أن الأشخاص قد تعلموا من دروس الماضي؟ ألم ندرك بعد أن الشحن الطائفي انتصار للدكتاتورية على الديمقراطية، للعصبية العمياء على المدنية، للديماغوجية على خطاب الحكمة والعقل، وللحالة الاستثنائية على النضال من أجل دولة القانون؟ ان استعمال المشاعر الدينية أو الطائفية في قضية حقوقية حساسة، تحتاج لكل الجهود لكشف وقائعها، لعبة خطيرة لا يحمد عقباها. فنقل انتهاك حقوق الإنسان ليس وجهة نظر. بل هو أولا وقبل كل شئ أمانة أخلاقية ومسئولية قانونية.
علينا بدلا من ذلك النضال دون كلل من أجل إطلاق سراح كل معتقلي الرأي، تحسين أوضاع السجون الرديئة في سورية. والمطالبة بالتحقيق في مأساة صيدنايا وإصلاح أوضاع هذا السجن. كما الدعوة لمحاسبة كل من تسبب في قتل أو أذية حارسا كان أو سجينا. مهمتنا امتلاك البعد الضروري عن الخطاب الحزبي، للتمكن من الدفاع عن كل إنسان في الشارع أو وراء القضبان. وكما اعتبر رسول الإسلام الحقيقة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها ولا يبالي من أي وعاء خرجت، أو رأى لينين الاشتراكي الحقيقة دائما ثورية، واجب مناضل حقوق الإنسان اعتبار الحقيقة شرطا واجب الوجوب لمصداقيته. لذا قد تكون أرقامنا عن عدد المعتقلين أقل من أرقام الحزبيين، وروايتنا أقل إثارة للصحفيين.
لكنها بالتأكيد تطمح لأن تكون أقرب للحقيقة. لن تستهوينا ضجة حول السلطة السورية، هي بالتأكيد ضرورية لوضع حقوق الإنسان في هذا البلد تحت المجهر، لكن دون تطويع ذلك لأطراف من المعارضة تسير منذ اغتيال رفيق الحريري على إيقاعات الوضع اللبناني والصراعات الإقليمية. أو أطراف دولية أتقنت عملية إبعاد الأنظار عن حصار غزة والجدار العازل وخناق الضفة الغربية، عند استقبالها “الديمقراطي أولمرت” و”الديكتاتور بشار الأسد” في باريس الأسبوع القادم!
هيثم مناع
الحوار المتمدن 2008 / 7 / 21