رحلة الموت

لا أعلم هل لهذا الورق الرقيق الهزيل أن يحمل ثقل كلماتي؟ هل أستطيع أن أسقط عليه كل هذه الأوجاع والآلام؟ هل سيمتص كل الدموع التي ستذرف؟ لا أحد يدري كمية الألم الذي يصب على هذه الأوراق. يخيل لي أني أسمع صرخاتها: كفى… كفى… ما ذنبي لتحفري على ظهري كل هذه الآهات؟

الكتابة مُرّة… مرة جداً. لا أحد يعرف معنى أن تمسك قلماً لتوثق هزائمك وأوجاعك ليقرأها الآخرون. أن تكتب عن ندباتك، عن خيبتك، عن ألم يمزق روحك.

بعض الجراح لا نشفى منها ولا تندمل. تبقى كوشم من جمر لا ينطفئ. ثمة أوجاع لا تحكى وأوجاع تبقى حبيسة الصمت…

تتلاطم الأفكار في ذهني: لماذا؟… لماذا أنا؟… هل لأنني قوية والله يقدّر أصعب المعارك لأقوى جنوده؟ أم لأنه إذا أحب عبداً ابتلاه؟

تضيق علينا الأرض بما رحبت لنجد أنفسنا بين أمواج متلاطمة من الكربات. ولا يبدو لنا الفرج إلا كسمّ خياط يستحيل علينا الولوج فيه…

ما زلت أتذكر تلك الأيام بمرّها وقسوتها وبرودتها وظلمها. ما زلت أتذكر تفاصيل المكان جيداً. ذلك الجحر المظلم وجحيمه الذي يحجب ضوء الشمس فلا نرى إلا الظلام. صرير الباب الحديدي ما زال في مسمعي، وتلك الجدران الملطخة بالأوجاع وأصوات القهر والذل والتعذيب تحرق فؤادي. ما زلت أسمع أصواتهم وهي تنادي: يا الله… يا الله، وقلبي يصرخ معهم ألماً وحزناً ودموعي تسقط من عيني وليس بوسعي سوى الدعاء لهم وكلي أمل أن الله لن يخذلنا وأنّ لا حزن سرمدي ولا باب يغلق إلى الأبد وأن ليل الظلم لن يدوم.

كنا مجردين من كل أشيائنا، ولم نكن نحمل معنا إلا يقيننا بالله.

تختنق الكلمات في حنجرتي. أعماقي مليئة بكلمات لا أعرف كيف أخطّها ومشاعر لا تترجمها حروف. ليس بوسعي سوى أن أنفض غبار الحزن عن قلبي وأمضي متوكلة على الله. أدركت حينها أن الله يختار لنا الأماكن والمواقف ويدير لنا شؤوننا بطريقة لا تتخيلها عقولنا. لم أكن أحمل معي في معركتي إلا الصبر والإيمان.

مما لا تمحوه ذاكرتي ذلك اليوم الذي كانت رائحة الموت تعبق فيه في كل مكان. الساعة الثامنة صباحاً. ما زلت أذكر صوت المفتاح، وزئير الحديد، وضربات يد الملازم على الباب، وصوتها وهي تنادي: «مروة س، ضبي غراضك وجهزي حالك بسرعة». ارتجف قلبي وكل جسدي. شممت رائحة الموت تخرج من صوت الملازم. كان الضجيج يعم أركان السجن كحاله في يومي السبت والثلاثاء اللذين يتم فيهما سحب السجينات المحكوم عليهن بالإعدام، وكانت مروة بينهن. بدأت بتجهيز نفسها والخوف يأكل قلبها. لملمت شتاتها. جمعت بقاياها المتناثرة وألقت نظرة سريعة على النزيلات ومضت تاركة وراءها ذكريات حفرتها على جدران المهجع. مشت والرجفة تعم جسدها النحيل ووجهها المصفر الذي كان ينطق بالوداع.

لم تكن تتوقع هذا المصير. كانت راضية بأن تقضي كل عمرها داخل هذا الجحر المظلم، وأن تتحمل برودة هذه الجدران وقسوة تلك القضبان على أن يكون مصيرها الفناء.

مشت نحو الباب الخارجي وعيوننا تراقب خطواتها. لم أكن أستطيع إبداء أي ردة فعل سوى جمود حدقتي وارتجاف جسدي. ليتم فتح الباب الخارجي وترى الاستنفار الأمني واللجنة الميدانية العسكرية فبدأت شلالات الدم تنهمر من عينيها.

حاولتْ أن تقنع نفسها بأنها ذاهبة في استرجاع إلى فرع «الجوية» كالعادة، لكن كان للقدر رأي آخر…

بدأ الخوف يتسلل إلى داخلي لأتساءل متى دوري؟؟؟ ألستُ مشروع شهادة مؤجلة؟؟؟

دقائق معدودة لا أذكر كيف مضت. كان الأمر وكأن جزءاً من روحي مات. خيّم الحزن على قلبي…

خذلك الجميع يا مروة. تكالبوا على قتل روحك. لكنكِ ستبقين خالدة فينا ولن يذهب دمك سدى. ستبقين عنواناً للتضحية ورمزاً للنضال. لن ننساكِ. سنمشي على خطاكِ بشغف، فالمنافي ليست نهاية الأحلام. وما زال الأمل طريقنا رغم الظروف والتحديات ورغم كل هذا الموت. فإما أن نعيش أحراراً أو نموت مثل الشجر وقوفاً… لم نخلق لنيأس بل لنعيش أحراراً…

لـ عبير سليمان
كاتبة مهتمة بحقوق الإنسان والمواطنة

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest