عقب الزنزانة

كلمةُ ثقيلة النطق حين تلفظها أو ترِد في معرض حديث، بل حتى على مسمع من تُلفظ أمامه. لكنها، وبكل أسف، واقع أصبح جزءاً من المخيال الجمعي لدى الشعوب المقموعة على الأقل، ومرادفةٌ لكل نشاط تقوم به أو حتى كلمة تقولها خشية أن ينتهي بك المطاف داخلها، وخاصة في الدول التي تحكمها أنظمة مستبدة، قمعية، شمولية، ومنها سورية.

تتعدد أشكالها وأحجامها وأعماقها تحت الأرض، لكن ذلك كله مدروس من قبل الجلادين بألا تكون فيها أي راحة مهما كانت بسيطة. وليس غريباً أن تكون فردية ويحشر فيها نزلاء عدّة.

يعزّي السجناء أنفسهم بتكرار: «مثل ما انفتح هالباب ودخلت منو، رح يجي يوم ينفتح وتطلع منو» رغم أن تلك التعزية قد تطول لسنوات ربما تتجاوز العِقد للبعض منهم.

أولئك الذين يشاركونك إياها -منهم الرفاق ومنهم الإخوة– قد يكون منهم من اعتقل بوشاية كاذبة أو «تقرير كيدي» أو على خلفية نشاط سياسي. لكن ما يجمعهم أنهم بشر، وكلهم إنسان انتهكت حقوقه وسُجن في ظروف غير آدمية. وخاصة في ظل الأنظمة سالفة الذكر.

الزنزانة مدرسة بكل ما للكلمة من معنى، فهي تُجبرك -شئت أم أبيت- أن تراجع سلوكياتك وتصرفاتك مرحّباً أو مكرَهاً، أن تصبّر نفسك وتواسيها «بأنك ستخرج من ذات الباب الذي دخلت منه»، وخلالها ربما تكون قد غيرت بعض أو كل قناعاتك وموافقك السابقة من أفكار أو انتماء سياسي كنت عليه قبل الزنزانة. تلمس الفرق بنفسك وتلاحظه عليك عند دخولك فيها وخروجك منها.

صادفنا بعض من سبق ذكرهم في السطور السابقة، أي أصحاب نشاط وانتماء سياسيين، وكذلك من اعتقل بتقرير أو بتشابه أسماء. وتعلمنا من تلك المدرسة الكثير.

بعد الزنزانة، وبعد التخرج من تلك المدرسة، فخلا أنك تولد من جديد بعد أن أتممت مرحلة دراسية من مسيرتك التعليمة طوعاً أو كرهاً، لاحظنا أن خريجي تلك المدرسة إما زادوا صلابة وقناعة بانتماءاتهم الفكرية أو السياسية أو أنهم ما عادوا عليها ذاتها وانتقلوا للنقيض ربما، ومنهم من كان دون انتماء أو قضيّة وصارت لديه قضيّة وانتماء.

لكنهم جميعاً قد انكسر شيءٌ في دواخلهم، وواجب علينا جميعاً الأخذ بيدهم والربت على أكتافهم، وجبر خواطرهم قبل ضررهم، سواء أكان جبراً جسدياً بمحاولة علاجهم مما أصابهم من أمراض أو حتى عاهات أو إعاقات، وضررهم النفسي الذي يبدأ منذ قبيل إدخالك إلى تلك البغيضة (الزنزانة)، حين يمارس الجلادون كل ما في وسعهم لتحطيم أنفة وكبرياء من سيُدخل فيها. وكأنهم يتمنون أن تترك الأنفة والكبرياء خارجها ولا تدخلهما معك، كما تُجبَر على خلع ثيابك وتصير كيوم ولدتك أمك.

لا نغفل عن أهمية الدعم الاجتماعي من الدوائر المحيطة؛ ابتداءً من الأسرة مروراً بالأقارب وليس انتهاءً بالأصدقاء وعموم المجتمع الذي يجب أن يُشعر الناجي بأنه يقدّر معاناته ويتفهم ما مرَّ به من ظروف قاسية وندوب قد لا تبرأ دون هذا الدعم الذي من شأنه أن يقلل مدة التعافي. فقد تتعافى بعزيمتك وقوة إرادتك في وقت قد يطول أو يقصر اعتماداً على العزيمة والإرادة، لكنه بالتأكيد سيكون أقل إن توافر ذاك الدعم.

حقٌ علينا مساعدة كل الخارجين من تلك الزنزانة وجبر ضررهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، علّه يهوّن عليهم أيام وشهور وسِنيّ عذاباتهم واعتقالهم. وربما لا نوفّق بذلك.

وواجبة علينا محاسبة كل من يعمل في منظومة تكون الزنزانة جزءاً منها؛ يُدخَل الناس إليها ويُسامون سوء العذاب. من كبيرهم إلى صغيرهم، من عسكريهم إلى مدنيهم، مروراً بكل من كان جزءاً منها علت رتبه أم دنت. علّ ذلك يكون الجبر الحقيقي لضرر الناجين والانتصاف لهم والانتصار لحقهم، والضامن بألا يدخلوها مجدداً لا هم ولا أبناؤهم في حال استمرت تلك الأنظمة.

نعيش على الأمل والثقة والرجاء بأن اليوم الذي سنُنصَف فيه -نحن خرّيجي تلك المدرسة وواردي تلك الزنزانة- آتٍ، ومحاسبة أولئك الجلادين كذلك. وليس فرانثيسكو فرانكو ولا أوغستو بينوشيه وسلوبودان ميلوشيفيتش وسواهم من الجلادين عنا ببعيد. وقد غاب عن بال أولئك الجلادين، أو أخذتهم العزة بالإثم، أن انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني لا تسقط بالتقادم وإن طال الزمان واستمر عقوداً. العدالة الآتية لا محالة هي جبر ضررنا ونفوسنا وخواطرنا وأحوالنا، بل حتى مستقبلنا.

غزوان الغدير
ناجٍ من الاعتقال – بكالوريوس علوم سياسية و علاقات دولية

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest