بينما كانت أسرتنا على مائدة الإفطار في يوم العطلة، في ثمانينيات حكم الأسد الأب، وكنا حينها أطفالاً أنا وإخوتي؛ وإذ بباب المنزل يُقرع بعنف. دخل الجميع في حالة رعب وصار الكل ينظر بذهول إلى الآخر. وبدأت أصوات الطارق تعلو: «افتح ولاك». هرول والدي، ونحن من ورائه، وفتح الباب فأمسك به أحدهم وساقه إلى خارج المنزل. وكانوا بكامل سلاحهم وعتادهم.  

يا للهول، أخذوا والدي. حضنت والدتي كل أولادها وأخذت بالبكاء بصمت (فللحيطان آذان). بدأت حينها مرحلة انتظار عودة والدنا وما أصعب ذاك الانتظار. توالت الأيام والشهور والسنين وكان سؤالنا الدائم: أين هو؟ هل هو حي أم ميت؟ ما هي جريمته؟ ولكن لا أحد يدلي بخبر. ولم يكن بوسعنا إلا الدعاء؛ إن كان ميتاً فالرحمة وإن كان حياً فالعودة.

بعد ما يقارب عقدين من الزمن عاد أبي ليحتضن شباناً ورجالاً تركهم أطفالاً، ليعانق زوجة أنهكها الهم والحزن بعد أن تركها شابة. عاد وهو إلى الموت أقرب منه إلى الحياة. وحالما أخذ نفساً عميقاً واستوعب أنه بين أسرته بدأت أقترب منه وأساله أن يخبرني عما جرى معه. حاول مراراً أن يمتنع لكنه حدثني بعد محاولات. بصراحة كنت أكاد لا أصدق كل ما يقوله عن الظلم والعنف والتنمر الذي تعرض له هو وزملاؤه من عذاب وقهر يفوق الخيال البشري، لكني كنت أعود وأقول إن والدي رجل طيب وصالح ولا يكذب.

دارت الأيام وجلس الأسد الابن على كرسي والده، وجاء بعد حين حراك شعبي يطالب بالحرية. وبينما كنت جالساً مع زوجتي وأطفالي أتى التاريخ ليعيد نفسه ويطرق باب منزلي بنفس العنف والأسلوب. هرولت إلى الباب وأولادي خلفي وإذ بعناصر المخابرات، وبدأ معهم مشوار الضرب والشتم. بعد أقل من ساعة عُزلت عن العالم الخارجي، معصوب العينين مكبل اليدين معلقاً من يدي بالسقف، ينهال عليّ الضرب من جميع من في ذاك المكان. وبعدها فتحت عينيّ وإذ أنا في الانفرادي حيث لا تتجاوز المساحة متراً مربعاً ونصف، وارتفاعها يقارب المترين، بباب حديدي وأقفال. لا ضوء ولا ماء ولا طعام. والسؤال يراودني أين أنا؟

تبدأ معك حالة من الصبر لا تشعر بها إلا هناك. ويهبط عليك من السماء دعم روحي لا تشعر به إلا في ذاك المكان. وبدأت أكتشف ما كان يحدثني به والدي:

الشبْح: جرّبته هو وآلامه. كان من يشبعك ضرباً وأنت معلّق سادياً بكل ما تعني الكلمة، وكلهم يدّعون البطولة بجلدك وأنت معلّق بالسقف.

الدولاب: كان شعاراً للأفرع الأمنية ومدعاة لفخرها ووجبة دسمة لإشباع وحشية عناصرها.

الصعق بالكهرباء: التي كان المواطن محروماً منها في معيشته ويجدها متوافرة في معتقله لقتله وتعذيبه.

بساط الريح: الذي يسمع به كل السوريين وجرّبه معظم المعتقلين.

الجماعي: غرفة عادية ولكن يوضع فيها أكثر من مائة معتقل، حيث الأمراض والتلوث وانعدام أي مقوم للحياة.

كل هذه الأدوات لممارسة أشنع وأبشع أنواع التعذيب الوحشي والسادي. لكن الجحيم الأكبر هو سعي تلك الوحوش لإهانة إنسانيتك وكرامتك لأنك طالبت بها يوماً. كان العمل على ذلك بشكل ممنهج من الجميع مِن عناصر وضباط. وكان سعيهم إلى ذلك لإرضاء غريزتهم الحيوانية ولإرضاء سيدهم. كانت نشوتهم عارمة عندما تسال الدماء ويعلو الأنين، وسعادتهم بالغة عند تكسير عظام المعتقلين. كان السباب والشتم مهدئاً لهم. وترى جل حقدهم عندما يسوقونك إلى التحقيق مكبلاً بالجنازير معصوب العينين. يسوقك السجان عبر الأقبية والأدراج وعلى كل منهم أن يبرحك ضرباً عندما يراك. وبعدها تأتي عنجهية المحقق، فهو الأفهم والأعلم والأصدق، وهو السيد، وهو الذي يأمر بجلدك وشبحك ويمارس كل فنون القتال معك وأنت مكبل. كل ذلك لتقول ما يحب هو ويحب سيده. يجب أن يشتم إنسانيتك وعِرضك ويهين كرامتك ويمارس كل قذارته الأخلاقية، وعليك أن تصمت. هناك تتعرف على الظلم الحقيقي. هناك تعرف معنى الاستبداد. هناك تعرف معنى الدكتاتورية. هناك تعرف لماذا يموت أناس لأجل الحرية. هناك تعرف كم كان كذب الحاكم كبيراً. هناك تسقط كل شعارات الحاكم الرنانة. هناك تدرك أنك ستبذل كل الجهد ليعيش أبناؤك بحرية.

كان كلام والدي عما جرى له في أثناء اعتقاله يذهلني، لكن الحقيقة أفظع بكثير لأني عشتها ولامستها. وأراهن أن كل شخص دخل المعتقل، مهما كانت درجة ثقافته وعلمه وأدبه، لا يستطيع أن يصف ما يعانيه المعتقلون وصفاً محقاً، لأن الحدث يفوق الخيال.   

عذراً والدي الحبيب. لقد أدركت أنك كنت صادقاً بكل كلمة. عذراً والدي. لم أستطع أن أفعل شيئاً لأجلك في معتقلك. وهذا أنا مكبل ومعتقل ولم ولن أستطيع فعل شيء لنفسي. إنه القهر يا والدي.

عذراً سوريتي. عذراً بلدي الحبيب. لقد زرعوا فيكِ بدل الياسمين أفرعاً أمنية تكاثرت وخلّفت؛ فرع أمن دولة وفرعاً عسكرياً وفرعاً سياسياً وفرعاً جوياً وفرعاً جنائياً وفرعاً خارجياً وفرع فلسطين ووو… عذراً سوريتي. لقد اقتلعوا الورد الجوري منك وزرعوا السجون؛ سجن تدمر وسجن صيدنايا وسجن المزة وووو.

اطمئني سورية فالنصر قادم والفرج قريب لكل معتقل ومعتقلة. النصر قادم من دماء الشهداء. النصر قادم من أنين المعتقلين. النصر قادم من كل حر وشريف. النصر قادم وسيعود إليك من هجرك بسبب ظلم الأشرار. النصر قادم وعدالة السماء لن تنساك.

الكاتب ثائر
معتقل ناجي من سجون الظلام و مهتم بكل قضايا المعتقلين و بكل ما يلزم لمساعدتهم . اتابع اخبارهم و اقرأ عنهم

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest