أكتب اليوم تحت ثقل الأمنيات الشاهقة، في محاولة لرسم شكل جديد للماضي ولو على الورق. أكتب ليتذكر معي الجميع صفعة أحدهم يوماً ما في زنزانة مظلمة لا تستطيع أن تميّز فيها حتى الألم، مستغلاً وحدتي ومنفرداً بضعفي؛ واليوم حان الوقت ليتذوق معي العالم ذلك الظلم وتلك الآلام. فاقرأوا معي عن اعتقالي.. اعتقاله.. اعتقالها.. اعتقالهم.. اعتقالهن.. اعتقالنا. تعالوا معاً لنضع تلك الظلمة تحت ضوء الشمس علّنا نكسر الظلام الذي تعيشه الصديقات ويعيشه الأصدقاء في الأقبية المجهولة.

فحين لا يرضى الله الظلم وينبذ الظالمين كيف نرتضيه نحن البشر لغيرنا ولأنفسنا..؟؟!!

الاعتقال الأول:

في صيف حار جداً من أيام شهر آب اللاهب من سنة 2015، ورغم ذلك اليوم القائظ، بدأ الصقيع والارتعاش يتسللان إلى مسامات روحي وكافة عروق قلبي وأطرافي حين تم اقتيادي بغتةً ودون سابق إنذار إلى مسلخ بشري مغرق في ظلمه وظلامه. من هنا بدأت الرحلة المضنية ذات الرؤية الضبابية ومجهولة المصير التي تمر بك محمولاً على انكسارك بين الحياة والموت دون معرفة السبب أو التهمة. فور سحبك إلى ذلك المستنقع المقيت تنهال عليك سيول الشتائم وتجلدك الكلمات الصارخة في خروجها عن الأدب فيتم تجريدك من كل شي أو، بمعنى أصح، تعريتك حتى من كرامتك وقيمتك كإنسان. ويتم رميك في الزنزانة كأي رقم مهمل إنسانياً أو كقطعة لا قيمة لها ولا حاجة..

لا أريد الدخول في تفاصيل ذلك المستنقع وشرح ما يحصل في داخله فهي معلومات باتت لا تخفى على أحد، يعرفها القاصي والداني في كافة أنحاء العالم. حتى أن صرخاتنا كل يوم تطرق مسمع المجتمع الدولي.. دون جدوى..!!!؟؟

هل تعلمون يا سادة يا كرام ما التهمة الموجهة إليّ؟ تهمتي فقط أنني أفكر بطريقة مختلفة عنهم؛ لا تروق لهم وتخالف ما يريدونه أن تعيش في بلد معطل التفكير عن كل شي مختلف وجديد إلا التفنن والتجديد في أساليب التعذيب والقهر؛ معطل عن الحرية والديمقراطية؛ متوقف حتى عن النمو والانتعاش، فقط لأنهم يتلذذون بنهب ثرواته وخيراته وتعطيل عقول أبنائه.. لا أدري هل انقلب مفهوم الحضارة ومفهوم الديمقراطية حتى عند من يناصر هؤلاء الظالمين؟

فهل تقوم حضارة الدول على هدم البلاد والعباد، أم تقوم الديمقراطيات المزعومة على تكميم الأفواه والعقول؟؟!!!

لماذا لم نسمع رأي أهل الديمقراطية بما يحصل لنا…

الاعتقال ثانية:

هو الأشد إيلاماً وحرقة والأكثر ديمومة. لا يمكنك تجاوزه ولو بعد حين، ولو تغيرت بك ظروف المكان والزمان. يبقى ندبة في القلب والروح تصعب إزالتها. أجل إنه اعتقالك النفسي والروحي..

أمضيت في غياهب السجن ثلاثين يوماً لكنها في المقياس النفسي تساوي ثلاثين عاماً من الظلم والظلمات والوحدة، لأجد نفسي وقد تساويت مع جدران الزنزانة فأصبحنا صديقين حميمين؛ أستند إليها من التعب وتُطبق على أنفاسي في محاولة يائسة لمواساتي…

كانت الساعات تتساقط متعبة من يومي المثقل بالحزن لتحيط بكل مساحاتي..

أنام مخمولة على ضوضاء ضجري وذكريات تملأها أصوات المعذبين المخلوطة بالنحيب، وأستيقظ تاركةً تفاصيل الأمل بالنجاة عالقةً في حلمي..

في تلك الزنزانة كانت مشاعري تتمسك بالذكريات الجميلة وبيدي أمي المنهكتين وهي جالسة على سجادة التواصل الروحي مع الله في جوف الليل وأطراف النهار.. ترفعهما لتنطلق دعواتها وترسلها إلى عنان السماء أن يحفظنا الله وييسر أمورنا ويرفع عنا كروب ونوائب الزمان ويبعد عنا الظلم والظالمين…

ذهبت أمي إلى بارئها وكنت ما أزال في المعتقل، وبقيت دعواتها تسري في عروق الروح المرتعشة في ظل وطن يحتضر..

بعد الاعتقال، عندما تخرج لتتنفس رئتاك الهواء من جديد؛ تجد نفسك متسمراً على عتبات السنين التي تطحنك كالرحى دون توقف ولا تملك خياراً جيداً سوى تسليم نفسك لها وبكل طواعية مكرهاً. ومع مرور تلك الأيام ومن بعدها السنين تبدأ بتحسس أطرافك التي لا تتوقف عن النمو في أحضان غربة لا تنتهي؛ تصارع فيها خيبة أعوام تسكن العمر وأيام صفراء شاحبة تجتاح الروح والوطن الذي يسكننا ولا نسكنه لأننا مبعدون عنه قسراً، ولا نستطيع العودة إليه، فلا نملك إلا أن نتنفسه كذكرى مؤلمة عن بعد..

واليوم لا أجدني سوى في سباق مع أيامٍ ضبابية لا تنتهي، وظروف مهشمة، وأصوات وآهات المسحوقين التي تخترق جمجمتي.

لكني حين أغوص عميقاً في الذاكرة أفكر في كل ذلك الحديد الذي أنفقوا عليه مليارات الدولارات ليصنعوا قضباناً تأسرنا وتفصلنا عن الحرية، وأسلحة شيطانية، وصواريخ ودبابات ثقيلة تسحقنا.. ونحن ما زلنا نخرج من خلف قضبانهم، وننهض من تحت ركامهم وأنقاضهم، أحياء لم نمت ولن نستسلم ولن يخنقنا رمادهم. صراخنا لا بد له أن يصل. وجروحنا المعتقة بالخذلان ستلتئم بمطر الدعاء واليقين بنصر الله، وستنمو خضاراً ينتشر ويتغلغل في مسامات الوطن..

وهنا يحضرني قول مارتن لوثر كينغ، الناشط الأميركي في مجال الحقوق المدنية وأحد أبطال المقاومة السلمية:
«ستواصل زوابع الثورة زعزعة أسس أمتنا إلى أن تبزغ شمس يوم العدالة».

وفي الختام السلام على كل شيء يأتي في تمام وقته..

والسلام على من سيجبر الضرر ويرفع الظلم عن المظلومين ويخرجهم إلى الشمس…

والسلام على وطن بنكهة أمي في لحظة دعاء ما يتنفس به قلبي ويبقيني على قيد الأمل.


علياء الناصر
خريجة لغة عربية
كاتبة مقالات بمجلة الرحى للتيار الوطني السوري
ناشطة ومناصرة لقضايا الثورة السورية.

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest