من باب مصلّى إلى فرع الخطيب

كانت الغرفة تكاد تخلو من الأثاث، ولا تتجاوز المترين طولاً وعرضها كذلك تقريباً، وفي زاوية من زواياها خزانة حديدية مقفلة بقفل خارجي كبير مثل الذي يستخدم لواجهات المحال التجارية.

تركني رجل الأمن وحيداً لدقائق ثم عاد ومعه زميله. كان كلاهما يلبسان ملابس مدنية ولا تمكن معرفة رتبتهما. اتجه الثاني إلى الخزانة مباشرة وفتحها ليخرج منها كاميرا فوتوغرافية ولوحاً أبيض بأسفله عداد مكون من عدة خانات قابلة للتعديل أخذ يضبطها على رقم معين وأنا أراقبه بصمت.

ثبّت اللوح على الجدار وطلب مني الوقوف أمام اللوح ووجهي إلى الكاميرا وأخذ لي صورة، ثم طلب مني الالتفات يساراً ليأخذ لقطة جانبية، فقلت في نفسي: «لقد أصبح لي فيش مثل أي مجرم».

اقتادني أحدهم إلى القبو حيث الزنزانة المؤقتة وكانت أشبه بقفص حديدي، ليتم تسليمي في اليوم التالي إلى الجهة التي عممت برقية الاعتقال والتي لم أكن أعرفها في تلك اللحظة.

دخلت القفص وكانت أرضيته من السيراميك -مما أثار انتباهي- واستقبلني أربعة موقوفين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، وجلسنا على الأرض يسألوني عن سبب توقيفي وأنا بدوري أسألهم.

كانت تلك الليلة الصيفية الحارة من أيام آب هي الليلة الأولى التي أنام فيها على البلاط تحت الأرض وفي قفص حديدي تحاصرني قضبانه ومخاوف عديدة على أسرتي وماذا حلّ بهم وكيف سيقضون ليلتهم وهم لا يعرفون شيئاً عني.

أرضية الزنزانة القاسية جعلتني لا أستقر على وضعية لأكثر من دقائق. وعند الفجر تقريباً غلبني النعاس من التعب فنمت لبعض الوقت. وما لبثت أن استيقظت وكان الجميع يغط في نوم عميق وقد بلغ العدد قرابة العشرين، فقد استمرت وفود الموقوفين تأتينا حتى وقت متأخر من الليل.

تذكرت صديقي ماجد الذي اعتقل منذ ثلاثين عاماً وأمضى ثماني سنوات من شبابه خلف القضبان. وحين خرج زرته رغم تحذيرات الجميع بأن لا يزوره أحد من الشباب ويقتصر الأمر على الآباء، على الأقل في الفترة الأولى، كي لا يتعرض أحد من أصدقائه للمساءلة أو الاعتقال، ومع ذلك غامرت وزرته فقط لأقول له: «لم يعاقبك النظام وحدك بل عاقبنا جميعنا حين خلا مقعدك في الصف بجانبي، وغابت ضحكاتك المجلجلة في أمسياتنا، وظل مكانك فارغاً لم يستطع أن يملأه أحد… لقد فقدت “الشلّة” توازنها منذ أن اختطفوك من بيننا».

جاء السجان ليوقظ الجميع وقد أحضر معه مجموعة من القيود الحديدية (كلبجات)، ثم وصل ثلاثة آخرون بلباس مدني يتوسطهم رجل ضخم بدا من تصرفاتهم أمامه أنه ضابط. ناوله أحدهم قائمة فألقى نظرة عليها ثم رمقنا بنظرة سريعة من وراء القضبان، وخرج صوته الآمر:

– اجمعوا كل اثنين بجامعة، حسب الفرع.

لم أفهم كلمة «جامعة» إلّا عندما وضعوا القيد المزدوج في يدي اليسرى، وفي اليد اليمنى لموقوف آخر، فأصبحنا مقيدين في قيد واحد يجمعنا، ويبدو أنها الحالة الوحيدة التي كان النظام يسمح بها أن نجتمع.

بعد أن اكتملت عملية الجمع اقتادونا برتل صعوداً على الأدراج ثم إلى الساحة حيث كانت تنتظرنا حافلة بيضاء حولها بعض الحرس المدجّجين بالسلاح.

همس الذي يشاركني القيد:

– أنا وأنت سيأخذوننا إلى فرع الخطيب… الله يستر.

لم ألتفت إليه بل كانت عيوني تجوب المكان أحاول أن أحفظ الوجوه التي بدت معتادة على هذا المشهد المتكرر بشكل يومي، وهو ما تكشفه ابتساماتهم وأحاديثهم الجانبية وكأنهم يتهيئون لنزهة.

انتظرنا في الساحة قرابة الساعة تحت وطأة شمس آب الحارقة رغم أننا لم نزل في أول النهار. بعدها صعدنا الحافلة وأجلسونا اثنين اثنين في المقاعد الخلفية وظلت الأمامية خالية. ثم رأيت من النافذة خمس فتيات مكبلات يقتادهن عسكري نحو الحافلة… كانت المقاعد الأمامية لهن.

انطلقت بنا الحافلة من باب مصلّى باتجاه دوار المجتهد لتنعطف يميناً وتدخل شارع خالد بن الوليد المزدحم. كنت أنظر إلى المارة على الرصيف وأتساءل ترى مَن مِن هؤلاء سيكون دوره غداً لركوب هذه الحافلة دون أن يدري لماذا، كحالتي ومن معي؟ فجميعنا لا يعلم لم هو مكبل اليدين ويساق إلى فروع المخابرات.

كانت النافذة مفتوحة حتى منتصفها لتسمح للهواء بالدخول. خطر لي لوهلة أن أقفز منها وأهرب وسط الزحام لكني تذكرت أن يدي مقيدة بيد شريكي، فسرحت بمخيلتي نحو زوجتي وأولادي وكم اشتقت لضمهم وكأنني غبت عنهم دهراً رغم أنه لم يمض على غيابي عنهم سوى يوم واحد.

توقفت الحافلة عند بوابة القصر العدلي القديم قبالة سوق الحميدية ونزل عدة موقوفين ومعهم الفتيات وتم تسليمهم لشرطة العدلية مع ملفاتهم، ثم انطلقنا على طريق جسر الثورة باتجاه القابون حيث تم تسليم البقية للشرطة العسكرية، وبقينا أنا وشريكي والسائق فقط فيما نزل الحرس مع آخر دفعة من الموقوفين.

خلال توقفنا في الشرطة العسكرية نهض السائق من مقعده وأشعل سيكارة، ثم تلفت يميناً ويساراً خشية أن يراه أحد قبل أن يتقدم نحونا ليقدمها لنا:

– تشاركا فيها. أكيد «خرمانين» على نفَس.. لكن بسرعة قبل أن يعود الحرس.

تلقفها شريكي بلهفة وقدمها لي لكنني امتنعت شاكراً:

– لا رغبة لي نهائياً.

أخذ شريكي يسحب أنفاساً متلاحقة وكأنه يريد التهامها، ربما كان التوتر الشديد وراء ذلك.

حاول السائق أن يظهر تعاطفاً معنا، ربما لأنه يعرف وجهتنا إلى الفرع ذائع الصيت، وكأنه يتحدث إلى شخصين قد لا يخرجان من هناك أحياء. سألَنا عن سبب توقيفنا فكانت إجابتنا واحدة: «لا ندري».

بادره شريكي بصوت كله رجاء إن كان بمقدوره أن يتصل بأهله ليعلموا أين هو، فرفض مع بعض التردد ثم قال مبرراً: «والله ينخرب بيتي إذا عرفوا أنني اتصلت، لا تؤاخذني».

حين وصلنا إلى محطتنا الأخيرة -فرع الخطيب- كانت المفاجأة الأولى لي حين قال شريكي ونحن نعبر حاجزاً وسط حي سكني هادئ: وصلنا.

تلفت حولي أنظر من النوافذ فلم أجد ما يوحي بأننا وصلنا، فلقد كانت الأبنية جميعها سكنية من الطابع المألوف لبنايات دمشق العريقة ذات الشرفات العريضة المليئة بأحواض الزهور. وحين نزلنا من الحافلة أطفأ السائق المحرك، وفجأة اكتشفت كم كان السكون المخيّم على الحي مرعباً.

ياسر الحسيني
كاتب مهتم بقضايا حقوق الإنسان والمواطنة

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest