كبرت وأنا مؤمنة بأن الموت يصيبنا مرة واحدة، لكني في ما بعد أيقنت أنه قد يصيبنا مرات ومرات. هكذا بدأتْ قصتي. وعندما بدأتْ انتهيتُ ككيان له وجود في هذه الحياة. في مشوار حياتي صُدمتُ صدمة دامت لسنوات وما زالت ترافقني وكم أتمنى لو أنها ما كانت، لأنها غيرت في نظرتي للحياة وفتحت جراحاً في وجداني وأدمتها رغم أني من عائلة تعرض معظم أفرادها للاعتقال حتى ظننت أنّ الاعتقال عندنا بالوراثة.

حدث ذلك عندما كنت في طريقي إلى أخي لأهنئه بخروجه من المعتقل وإذ بنقطة عسكرية على مشارف المدينة توقف سيارتنا للتفتيش. تملكني الخوف وأخدت ضربات قلبي بالتسارع مما رأيته من هذه الوحوش البشرية التي تحمل البواريد فتحول المكان إلى لوحة مضرجة بالدماء. أيقظ المشهد في نفسي شعوراً صعباً كان قد انتابني عندما سمعت من أهلي قصصاً عما يجري في المعتقلات من أساليب تعذيب لا يتخيلها عقل البشر، ووجدت نفسي أخوض في ذاك السيناريو عندما سمعت عبارة «توقفي، أنت مطلوبة». لا أخفيكم مقدار الرعب الهائل الذي انصب في قلبي فشلّ حركتي وجعلني أستسلم بسرعة لأنني في هذه اللحظة أكثر إنسان لا حول له ولا قوة.

بدأ العد العكسي لحياتي عندما رماني أحدهم في إحدى الغرف فقبعت في الزاوية ألملم نفسي وضممت جسدي بذراعيّ. أي أبجدية تستطيع أن تصف هذا المشهد؟ في هذا المكان الموحش لم يعد هناك وجود لأي سند سوى الله سبحانه وتعالى، فأخذت أدعوه أن ينقذني وصرت أحاول أن أجد تفسيراً لما يجري حولي. حاولت أن أهرب من هذا اللحظة فبدأت أتذكر أطفالي وقلبي يكاد ينفطر عندما راودني شعور البقاء في السجن أو أن ينهي هؤلاء الوحوش حياتي ويعيش أولادي دوني. يا الله ما أقسى هذا الشعور، والأقسى منه وجود أمثال هؤلاء في حياتنا. لم يكن بوسعي عمل أي شيء سوى البكاء وزفرات الألم تخرج من صدري تحمل معها كل أوجاع العالم، خاصة عندما تذكرت إخوتي وانكسارهم وشعورهم بالعجز عن مساعدتي. هكذا قضيتُ اليوم الأول في بداية انتهائي كإنسانة، وتوالت أيام قاسية لا تخلو من التعذيب وإلقاء التهم الباطلة، وعندما كنت أنفي كان وابل من الإهانات والألفاظ النابية ينهال عليّ. كان كل ذلك كفيلاً بانهياري وجعلي أدرك أنّ الموت هو الخلاص الوحيد من هذه الوحوش الضارية.

كان السؤال الذي لا يجد جواباً هو ما الذي يحدث في هذه البقعة من العالم، حيث تصبح أمنية الإنسان الوحيدة هي الخلاص، والخلاص الوحيد كان الموت؟ كنت أتساءل بألم هل من المعقول أن يحدث هذا للإنسان وهو في وطنه الأم الذي وُلد فيه وترعرع وتعلّم وقضى نصف عمره وهو لا يعرف من حب الوطن سوى الوقوف في باحة المدرسة منتصباً عندما كان يُعزف النشيد الوطني؟ وكان يحترم جنود الوطن ويحييهم لأنهم حماة الوطن، ولم يكن يتخيل في يوم من الأيام أنه سيُعذَّب ويهان في غرفة رُفع على جدارها علم الوطن، أمّا حماة الديار فهم من كانوا يقومون بتعذيبه! إنها من أقسى المفارقات وأكثرها ألماً. كنت كلما أعود من جلسة التحقيق أسأل نفسي من هؤلاء؟ ولماذا يفعلون ذلك؟ من يمجدون؟ ولصالح من يعملون؟ هل يستطيع الإنسان أن يتخلى عن إنسانيته ليُرضي شخصاً يليق به لقب جزار وسفاح وقاتل؟

توالت أيام الاعتقال وكنت أظنها لن تمضي ولكن قد يستسلم الإنسان عندما يعجز وييأس. لم يكن يراودني ولو بصيص أمل بأنّي سأغادر هذا المكان لأنني كنت أسمع الناس من حولي يرددون «الداخل مفقود والخارج مولود»، فهل يا ترى سأكون من المولودين؟ كان وقع تلك العبارة صعباً جداً لكنّه كان واقع حالي وحال كل من كان في هذا المكان. فصرخاتهن تشهد بأنّ هذا المكان لا يُفقد فيه الإنسان فقط بل يتلقى فنون وحشية البشر وقسوتهم فيودّ أن ينسلخ عن عالم الإنسانية.

اليوم يستطيع قلمي أن يخلّصني من عبء حمل الكثير من الأوجاع والآلام، أمّا هناك فكنتُ أشعر بالوحشة بين جدران تلك الغرفة الباردة بضوئها الباهت الذي كان يشعرني بالخوف أكثر من الظلام نفسه. لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن أعيش في مكانٍ الموت هو الزائر الوحيد له، والوحوش هم سكانه، والقذارة تحيط به من كل جانب.

مع مرارتها مضت تلك الأيام وأنا أرتقب سماع صوت أحدهم ينادي برقمي ويُلحِق به كلمة إفراج. وفعلاً صحوت مرة على صوت يذكر اسمي الذي لم أسمع صدى حروفه يتردد على مسامعي منذ زمن، وسمعت كلمة إفراج وأنا مصدومة فاختلطت المشاعر في نفسي. وبدأت أحمد الله وأشكره لأنه أطال في عمري لأموت بعد رؤية أولادي وعائلتي، وبعد حصولي على جزء من حقوقي كإنسانة، وخرجتُ.

نعم خرجتُ وفي نفسي كسر وفي قلبي جرح. لم تستطع رؤيتي لعائلتي وأحبابي أن تنسيني ما مررت به، ولم يستطع لون السماء الصافية أن ينسيني قبح سقف تلك الغرفة، ولم تستطع حريتي الجديدة أن تنسيني ما سُلب من كرامتي. فهيهات أن يعود الإنسان مولوداً بعد أن دخل مفقوداً وخرج فاقداً لكلّ ما يمنحه القيمة والسعادة.

هرباً من كل هذا قررت الرحيل بما تبقّى منّي من شتات، فالوطن لم يعد كما كان. لقد فقد جزءاً كبيراً من صلاحيته. مؤلم ترك الوطن لكنّ الأكثر ألماً أن تبقى داخله وأنت مضطهد مسلوب الحرية. سامحني وطني الحبيب فستبقى في الوجدان حياً، وما يًدوّن في الوجدان لا تمحوه الأيام ولا السنون. وقد علّمنا التاريخ أنّ السفاحين يرحلون والشعوب تبقى. فمتى أراك سالماً منعماً كما كنّا نردد في المدرسة ونحن نلقي عليك التحيّة؟

ألف سلام وألف تحية لكِ سوريتي وأنتِ خالية من دنس من دنّسوكِ ومن الإجرام الذي مارسوه فيك.

للكاتبة انتصار
ناجية من سجون الاسد وسيدة حرة مهتمة بالكتابة
أغرد بحروف الحرية ومهتمة بقضايا الانسان

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest